
القاضي/ محمــد حمــــود الهـــتار
متخصص في العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان
الرقم التسلسلي للنشر
11762
بتاريخ 3 ماي 2024
رقم الإيداع الدولي المعياري
2028-8107
أصبحت مسألة توافق القوانين الوطنية مع المعاهدات الدولية من القضايا الجوهرية في الفقه القانوني المعاصر، لا سيما في الدول التي تسعى إلى مواءمة تشريعاتها مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان. وتُعدّ عملية تكييف القواعد الدولية مع التشريعات الوطنية من أبرز التحديات القانونية التي تواجه الدول الحديثة، لما لها من دور محوري في تعزيز حماية الحقوق وضمان الالتزام بالمعايير الدولية المعترف بها.
فإدماج المعاهدات والاتفاقيات الدولية في المنظومة القانونية الوطنية يُعدّ خطوة أساسية نحو تحقيق عدالة شاملة، توفر إطاراً قانونياً فعّالاً يحمي الأفراد من الانتهاكات ويكفل حقوقهم الأساسية. ومع ذلك، فإن القضاء اليمني، شأنه في ذلك شأن العديد من الأنظمة القضائية في الدول النامية، يواجه تحديات حقيقية في سبيل المواءمة بين التشريعات الوطنية – التي غالباً ما تكون قديمة أو غير منسجمة – والمعايير الحديثة لحقوق الإنسان كما تقرها الاتفاقيات الدولية.
وفي هذا السياق، تبرز إشكالية قانونية جوهرية تتعلق بمبدأ سمو المعاهدات الدولية وأولويتها على القوانين الداخلية، خاصة في ظل غياب نص دستوري صريح في الدستور اليمني يُكرّس هذا المبدأ ويضمن نفاذه الفعلي ضمن النظام القانوني الوطني.
إن هذه التحديات القانونية تفرض على الدولة التعامل بجدية مع التزاماتها الدولية، وضمان تطبيق المعايير المتفق عليها من خلال تكييف التشريعات المحلية بما ينسجم مع تلك الالتزامات.
ومن هذا المنطلق، يتناول هذا المقال أبرز المسائل المتعلّقة بكيفية تكييف القانون اليمني مع المعاهدات الدولية، من خلال تحليل الإجراءات التشريعية للمصادقة، وتحديد القيمة القانونية للمعاهدات، ودراسة أحكام الاتفاق والتعارض بين القواعد الوطنية والدولية.أعلى النموذج
أولا: التزامات الدولة المترتبة عن التصديق على المعاهدات
تُعدّ المعاهدات والاتفاقيات الدولية أدوات قانونية ملزمة للدول، ويترتب عليها، بمجرد التصديق أو الانضمام[1]، التزام رسمي باتخاذ التدابير اللازمة لتطبيق أحكامها داخلياً، ويتطلب ذلك غالباً تعديل التشريعات الوطنية القائمة أو إصدار قوانين جديدة تتوافق مع بنود المعاهدة[2].
ولا يكون الالتزام حقيقياً إلا إذا تجسد على أرض الواقع، من خلال اتخاذ الدولة الطرف خطوات وإجراءات تشريعية تكفل الوفاء بالتزاماتها، ويتطلب هذا الالتزام تنفيذ عدة أساليب رئيسية لتكييف المعاهدات الدولية مع النظام القانوني الدولي، والتي تشمل: إصدار تشريعات تمهد لتطبيق المعاهدة في حال كانت التشريعات الوطنية النافذة غير كافية لتطبيق أحكامها[3]، أما إذا كانت الأحكام تشريعية القائمة تتعارض مع أحكام المعاهدة، فانه يتعين تعديلها أو إلغاؤها لضمان توافق التشريعات الوطنية مع الالتزامات الدولية[4] كما يجب على الدول إصدار تشريعات تتضمن عقوبات للأفعال المحظورة بموجب المعاهدات، لضمان تنفيذ أحكامها بفعالية[5].أعلى النموذجأسفل النموذج
وفي حال تقاعست الدولة عن احترام التزاماتها الدولية، فإنها قد تُواجه مسؤوليات قانونية وسياسية، سواء من خلال آليات المراقبة الدولية أو الضغوط الدبلوماسية، ما يؤثر سلباً على مكانتها الدولية ويُضعف ثقة المجتمع الدولي بها[6].
وقد كرس القانون الدوليأعلى النموذج قاعدة سمو القانون الدولي على القوانين الوطنية من خلال عدم جواز التحجج بمقتضيات التشريعات الداخلية لعدم تنفيذ الالتزامات الواردة في المعاهدات وهو ما أكدته عدد من الصكوك الدولية كالمادة (13) من مشروع اعلان حقوق وواجبات الدول لعام 1949، والمادة (27) من اتفاقية فيينا للمعاهدات لعام 1969، وهو ما دأبت عليه لهيئات الاتفاقية واللجان الدولية على التأكيد المتكرر لهذا المبدأ، بما يضع على عاتق الدول التزامات قانونية واضحة بضرورة تكييف قوانينها الداخلية مع المعايير الدولية.
لكن في الواقع، تتأثر العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي بخصوصيات كل دولة، سواء من حيث نظامها الدستوري أو التقاليد القانونية المعتمدة لديها، مما يجعل من الصعب التوصل إلى تبني إحدى النظريات القانونية دون الأخرى، بينما تعترف الدول جميعها بالصفة الإلزامية للقانون الدولي، فإن تطبيق هذا الاعتراف يتفاوت بناءً على الأنظمة القانونية الداخلية المختلفة[7]، وتتباين الدول في كيفية تعاملها مع القانون الدولي، حيث يعكس كل نظام قانوني مدى التزام الدولة بالقوانين الدولية بناءً على دستوره وسياسته القانونية، ويؤثر التباين بشكل مباشر على كيفية تطبيق القوانين الدولية ضمن النظام القانوني الداخلي للدولة، بين من يكرس مبدأ السمو بشكل صريح وبين من يتغافل عن ذلك.
ثانياً: الإجراءات التشريعية للمصادقة على المعاهدات الدولية
أكد الدستور اليمني، على العمل بميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وميثاق جامعة الدول العربية وقواعد القانون الدولي المعترف بها بصورة عامة[8]، ويُفهم من هذا النص أنه يمثل قاعدة عامة ملزمة، ما لم ترد نصوص خاصة تقيدها، ويجب العمل بها ما لم تتعارض مع نصوص الشريعة الإسلامية، التي تُعتبر مصدراً لجميع التشريعات، وفقاً للمادة (3) من الدستور.
ومع ذلك، لم ينص الدستور اليمني صراحة على سمو المعاهدات الدولية على القوانين الوطنية في حالة التعارض، وهو ما يفتح المجال لتفسيرات متباينة، ويجعل عملية التكييف رهينة بالإرادة السياسية وباجتهاد الهيئات القضائية والإدارية.
ولا تدخل المعاهدات والاتفاقيات الدولية حيز التنفيذ إلا بعد التصديق عليها وصدور قرارات جمهورية سواء تطلب ذلك موافقة مجلس النواب او مجلس الوزراء فقط، حيث توجب المادة (92) من الدستور، على مجلس النواب التصديق على المعاهدات والاتفاقيات السياسية والاقتصادية الدولية ذات الطابع العام، بما في ذلك تلك المتعلقة بالدفاع، والتحالفات، والصلح، والسلام، والحدود، أو التي تترتب عليها التزامات مالية على الدولة، أو التي يتطلب تنفيذها إصدار قانون، وهو ما أكدته المادتين (132و 133) من القانون رقم (1) لسنة 2006م بإصدار اللائحة الداخلية لمجلس النواب .
وقبل الإحالة إلى مجلس النواب أو إلى رئيس الجمهورية، يشترط الدستور في مادته (137/د) موافقة مجلس الوزراء على المعاهدة، وهو ما أكدته المادة (12) من قانون رقم (3) لسنة 2004 بشأن مجلس الوزراء.
أما المصادقة النهائية فتتم بقرار من رئيس الجمهورية، وفقاً للمادة (119) من الدستور، سواء بعد موافقة مجلس النواب، أو في حالة المعاهدات التي لا تستلزم موافقته، شريطة إقرارها قبل مجلس الوزراء.
ورغم عدم اشتراط الدستور نشر المعاهدات الدولية بعد المصادقة عليها، إلا أن المادة (103) من الدستور تنص على ضرورة نشر القوانين في الجريدة الرسمية وإذاعتها خلال أسبوعين من تاريخ إصدارها، على أن يبدأ العمل بها بعد ثلاثين يومًا من النشر، ما لم يُنص على خلاف ذلك، كما توجب المادة (3) من قانون الجريدة الرسمية نشر القوانين والقرارات الجمهورية وقرارات مجلس الرئاسة ورئيسه في الجريدة الرسمية[9].
وفي هذا السياق، من الضروري تفعيل دور وزارة حقوق الإنسان في دراسة مدى انسجام التشريعات الوطنية مع المعاهدات والاتفاقيات الدولية المصادق عليها، واقتراح التعديلات اللازمة بما ينسجم مع الدستور والقوانين النافذة[10]، كما ينبغي أن تضطلع وزارة الشؤون القانونية بمسؤولية مراجعة المعاهدات النافذة، والتنسيق مع الجهات المعنية لضمان الوفاء بالالتزامات القانونية التي تفرضها تلك الاتفاقيات، بما يعزز من فاعلية تنفيذها داخلياً[11].
ثالثا: القيمة القانونية للمعاهدات والاتفاقيات المصادق عليها في التشريع اليمني
تتباين القيمة القانونية للمعاهدات والاتفاقيات الدولية ضمن الأنظمة القانونية الوطنية من دولة إلى أخرى، تبعًا لطبيعة النظام الدستوري ومدى انفتاحه على القانون الدولي. فبعض الدول، كـالولايات المتحدة الأمريكية وهولندا، تنص دساتيرها صراحة على مبدأ سمو المعاهدات الدولية على التشريعات الوطنية، في حين تساوي دساتير دول أخرى بين الاتفاقيات الدولية والقوانين الداخلية، من حيث المرتبة القانونية.
بل إن القيمة القانونية للمعاهدات قد تختلف داخل الدولة الواحدة، بحسب نوع المعاهدة والجهة المصادقة عليها وفي السياق اليمني، يُحدد الدستور اليمني درجة المعاهدات الدولية ضمن النظام القانوني الوطني وفقًا لطبيعتها وإجراءات المصادقة عليها، على النحو التالي:
- المعاهدات ذات الطابع العام: تنص المادة (91) من الدستور على ضرورة عرض المعاهدات السياسية والاقتصادية ذات الطابع العام على مجلس النواب للمصادقة عليها، لا سيما تلك المتعلقة بالدفاع، أو التحالفات، أو الصلح، أو السلم، أو تعديل الحدود، أو التي تترتب عليها التزامات مالية على الدولة، أو التي يتطلب تنفيذها إصدار قانون. وتُعد هذه المعاهدات، بعد المصادقة عليها، بمثابة قوانين وطنية، وتكتسب نفس المرتبة القانونية للتشريعات العادية، ما يجعلها واجبة التطبيق في مواجهة القوانين الوطنية الأخرى.
- المعاهدات غير الخاضعة لمصادقة البرلمان: وهي المعاهدات التي لا تحتاج إلى مصادقة مجلس النواب، وإنما يتم التصديق عليها من قبل رئيس الجمهورية بناءً على موافقة مجلس الوزراء فقط – كما ورد في المادة (137) من الدستور – فإنها لا ترقى إلى مرتبة القانون، وإنما تُعد في حكم اللوائح أو القرارات التنظيمية، ويكون موقعها في التسلسل الهرمي أدنى من التشريعات العادية، ما يحدّ من أولويتها القانونية في حالة التعارض مع القوانين الوطنية.
- الاتفاقيات الثنائية: توجد فئة ثالثة من الاتفاقيات، وهي الاتفاقيات الثنائية التي تبرمها الوزارات أو الهيئات الحكومية مع نظيراتها في الدول الأخرى، وغالباً ما تكون ذات طابع إداري أو فني محدود، وتُعامل هذه الاتفاقيات من الناحية القانونية على أنها قرارات إدارية، وتأتي في أدنى درجات السلم القانوني، وتُطبق فقط ضمن نطاق الجهة المبرمة لها، دون أن تكتسب صفة الإلزام العام أو المرتبة التشريعية.
ونستنج مما سبق بإن تحديد القيمة القانونية للمعاهدات في اليمن لا يتوقف فقط على طبيعة المعاهدة ومضمونها، بل يتأثر أيضاً بالإجراءات الدستورية المصاحبة للمصادقة عليها، مما ينعكس على مدى إلزاميتها في مواجهة التشريعات الوطنية، ويؤثر على إمكان الاحتجاج بها أمام القضاء الوطني.
رابعا: التوافق بين القواعد الدولية والوطنية: الإطار والممارسة
يقصد بـ “التوافق” بين القواعد الدولية والوطنية، أن يُحقق النظام القانوني الداخلي نفس مستوى الحماية المقررة بموجب القواعد الدولية، سواء من حيث نوع الحق أو نطاق الحماية التي يكفلها. ويتضمن ذلك ضمان المساواة وعدم التمييز في التمتع بالحقوق، دون النظر إلى أي معايير أو اعتبارات شخصية، عرقية، دينية، أو اجتماعية.
فإذا خلت التشريعات الوطنية من أي نصوص تضمن حماية لحق مكفول بموجب الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، فإن ذلك يُعد انتهاكًا لمبدأ التوافق، ويُعد القانون الوطني في هذه الحالة قاصرًا عن الوفاء بالالتزامات الدولية. كما لا يجوز للمشرع الوطني أن يُجرّم ممارسة حق معترف به دوليًا، وإن كان من الجائز تنظيم كيفية ممارسة هذا الحق، بشرط ألا يؤدي هذا التنظيم إلى إفراغ الحق من مضمونه أو تعطيله. أما مخالفة القواعد التنظيمية فقد تخضع للعقوبات، طالما لم تؤدِ إلى انتهاك جوهر الحق ذاته[12].
وقد يكون التوافق جزئياً أو كلياً، فيكون جزئياً عندما لا تشمل حماية الحق وفقاً للقانون الوطني كافة عناصر الحق، أو تكون أقل من الحد الأدنى المقرر بموجب قواعد الشرعة الدولية، في المقابل يكون كلياً عندما تتحقق حماية الحق الدولي بالكامل ضمن جميع عناصره ووفقاً للحد الأدنى المقرر، سواء كان ذلك عبر تجريم المساس بالحق وعقاب مرتكبيه، أو بمنع تجريمه والعقاب عليه، مما يتيح للأفراد ممارسة هذا الحق بشكل كامل.
ومن باب أولى، يتحقق التوافق الكامل إذا نص التشريع الوطني على مستوى حماية قانونية أعلى للحق المحمي مقارنةً بما هو مقرر في قواعد الشرعة الدولية في هذه الحالة، يكون التشريع الوطني متوافقاً مع قواعد الشرعة الدولية وغير متعارض معها، لأن هذه القواعد تحدد الحد الأدنى من الحماية فقط، ولا تمنع الدول من تقديم مستوى حماية أعلى، وبالتالي يسمح للتشريعات الوطنية بتقديم حماية أفضل دون تجاوز الحد الأدنى المطلوب دولياً[13].
وبالتالي، فإن نفاذ قواعد الشرعة الدولية ضمن النظام القانوني الداخلي واعترافها بهذه المكانة يؤكد أن المشرع الوطني لا يمكنه تعديلها أو إلغائها بشكل يؤثر على حقوق الإنسان المحمية، وذلك حفاظاً على الالتزام بالمستوى الدولي المشترك لحماية هذه الحقوق، ومع ذلك يُسمح بإدخال تعديلات ترفع من مستوى الحماية، مثل إضافة ضمانات جديدة لم تكن موجودة في النصوص الدولية المنفذة[14].
على سبيل المثال، في سياق حماية الحق في سلامة الجسد واحترام إنسانية الأفراد، إذا كان القانون الوطني في دولة ما يحظر التعذيب ويتوافق مع قواعد الشرعة الدولية، فإن إضافة ضمانة جديدة مثل عدم خضوع جريمة التعذيب للتقادم تعزز من مستوى الحماية، وقد أكدت المادة (47/هـ) من الدستور اليمني على أن “التعذيب الجسدي أو النفسي عند القبض أو الاحتجاز أو السجن يُعتبر جريمة لا تسقط بالتقادم ويعاقب عليها كل من يمارسها أو يأمر بها أو يشارك فيها.” الامر الذي يعزز معه الحماية ضد التعذيب ويضمن عدم إفلات الجناة من العقاب، مما يتماشى مع المعايير الدولية ويعزز من مستوى الحماية القانونية في اليمن.
ويجب على الدولة بكافة سلطاتها العمل على التوفيق بين القوانين الوطنية وقواعد الشرعة الدولية، من خلال عدة إجراءات: بدأً، بتنقية التشريع الوطني من النصوص المتعارضة مع قواعد الشرعة الدولية، ثم حماية النصوص الوطنية التي تحقق حقوق الإنسان الأساسية من أي تعديلات قد تقلل من نطاق الحماية، فضلا عن ضرورة التدخل التشريعي لجعل قواعد الشرعة الدولية قابلة للتطبيق الذاتي مع الحفاظ على الحد الأدنى من حماية حقوق الإنسان، وأخيراً التزامها بمستويات حماية أعلى للحقوق إذا كانت متاحة، بدلاً من التذرع بالحد الأدنى[15].
ونرى ان توافق القواعد الوطنية مع القواعد الدولية في مجال حماية حقوق الإنسان، يعكس التزام الدولة بالمعايير الدولية ويعزز من شرعية نظامها القانوني على الصعيد الدولي، بل انه يوفر حماية مزدوجة لحقوق الأفراد، ويسهل التعاون القضائي الدولي، ويعزز الاستقرار القانوني بتقليل النزاعات المحتملة بين القانونين الوطني والدولي، فضلا عن تمكينه صياغة تشريعات متوافقة مع المعايير الدولية، وتبني تفسيرات قضائية تنسجم مع هذه المعايير، وتطبيق القواعد الوطنية بما يتماشى مع التزامات الدولة الدولية.
بالتالي، لا توجد إشكالية عندما تتوافق القواعد الوطنية مع القواعد الدولية، ولكن تثار التساؤلات عندما يحدث تعارض بين القواعد الوطنية والقواعد الدولية.
خامسا: التعارض بين القواعد الدولية والوطنية: الإشكاليات والحلول
يقصد بالتعارض في مجال حماية حقوق الإنسان: “وجود قاعدة قانونية داخلية لا تحقق الحماية لحق أو أكثر من حقوق الإنسان، أو تحققها بصورة أقل من المستوى المعتبر حداً أدنى لهذه الحماية”، بمعنى أن التعارض لا ينشأ مع قاعدة قانونية تحمي حقاً من حقوق الإنسان، بل يظهر عندما تنتهك القاعدة هذا الحق أو تقدمه بحماية أقل من مستوى الحماية المنصوص عليه في القواعد الدولية[16].
ويشكل التعارض بين المعاهدات الدولية والتشريعات الوطنية قضية قانونية محورية، خصوصاً عندما تكون هذه المعاهدات تهدف إلى حماية حقوق الإنسان، وفي حالة حدوث هذا التعارض، يصبح من الضروري تحديد الأولوية بين المعاهدات الدولية والقوانين الوطنية، يعتمد حل هذا التعارض بشكل أساسي على مبدأ التدرج، الذي يحدد أي القوانين له الأولوية، وذلك وفقاً للدستور والآليات القانونية المعتمدة في كل دولة.
- تطبيق مبدأ التدرج لحل التعارض بين المعاهدات الدولية والتشريعات الوطنية:
عند معالجة التعارض بين المعاهدات الدولية والقوانين الوطنية، يتعين تطبيق مبدأ التدرج، الذي يعتمد على تحديد درجة القوة القانونية لكل منهما، فمتى نص الدستور على سمو المعاهدات الدولية، تُعطى المعاهدة الدولية الأولوية على أي قانون وطني يتعارض معها، مما يستدعي تطبيق أحكام الاتفاقية الدولية وتجاهل النصوص الوطنية المتعارضة. ولكن في بعض الدول مثل اليمن، حيث لا يُنص دستورها بشكل واضح على سمو المعاهدات الدولية على التشريعات الوطنية، يصبح الوضع أكثر تعقيداً، في هذه الحالة تُعتبر الاتفاقية الدولية بمثابة تشريع وطني حالما تُصدر بموجب قانون، مما يتطلب تسوية التعارض بين المعاهدة والقانون الوطني وفقًا لمبادئ عامة مثل مبدأ “القانون اللاحق يُلغي السابق”، وهي آلية قد تكون غير كافية لحل تعارضات جوهرية بين المعاهدات والقوانين الوطنية.
يواجه النظام القانوني تحديات أساسية في هذه السياقات، من أبرزها أن الاتفاقيات الدولية قد تُصنَّف أحيانًا في مرتبة أدنى من التشريعات الوطنية، مثل القوانين أو اللوائح التنظيمية، مما يُضعف قدرتها على ضمان حماية حقوق الإنسان بفعالية، ويرتبط هذا التحدي بتطبيق مبدأ تدرج القوانين، الذي يفضل النصوص القانونية الأعلى على تلك الأدنى، ما يؤدي إلى تهميش المعاهدات الدولية في حال عدم منحها مرتبة قانونية عليا ضمن النظام القانوني الوطني.
وفي حال حدوث تعارض بين الاتفاقية الدولية ونصوص الدستور، فإن المعاهدة الدولية تُعتبر غير دستورية، مما يتيح إمكانية الطعن في دستوريتها.
- تصنيف التعارض بين المعاهدات الدولية والتشريعات الوطنية:
يتجسد التعارض بين المعاهدات الدولية والقوانين الوطنية في دساتير بعض الدول التي لا تحدد بشكل واضح سمو المعاهدات الدولية على التشريعات الداخلية، مثل اليمن الذي لا يعترف دستورها بسمو المعاهدات الدولية على القوانين الوطنية، مما يؤدي إلى تعارض النصوص الوطنية مع الأحكام الدولية، لا سيما إذا كانتا متساويتين في القوة الإلزامية على سبيل المثال متى تعارضت اتفاقية صادرة بقانون مع قانون وطني نافذ او كانت الاتفاقية صادرة بناء على قرار جمهوري دون موافقة مجلس النواب وتعارضت مع لائحة تنفيذية. وبناءً على ذلك، يمكن تصنيف التعارض بين المعاهدات الدولية والتشريعات الوطنية إلى نوعين رئيسيين:
- التعارض الظاهري:
اتبع المشرع اليمني نظرية ثنائية القانون الدولي والوطني، التي بموجبها تُعتبر الاتفاقية الدولية مصدراً للقاعدة القانونية الداخلية، وذلك من خلال عمل قانوني يحول الاتفاقية إلى تشريع وطني، وبناءً عليه تصبح الاتفاقية الدولية تشريعاً وطنياً يتمتع بذات الوضع القانوني للتشريعات الداخلية الأخرى، وبالتالي يتم دمج الاتفاقية ضمن النظام القانوني الوطني وتطبيقها ضمن المجالات المحددة لها.
في هذه الحالة، يتم تطبيق القانون الدولي والقانون الوطني ضمن المجالات التي خصصها كل منهما، وفقاً للقاعدة الفقهية المعروفة التي تقول: “الخاص يقيد العام”، فيتم تطبيق النص الخاص ضمن نطاقه المحدد، بينما يُطبق النص العام في الحالات التي لا يتداخل فيها مع الاتفاقية الدولية، وطبقاً لهذه النظرية لا يؤدي التعارض الظاهري إلى إلغاء أو تعديل أي من النصين، مما يعني أنه لا يوجد مشكلة أمام القاضي الوطني عند تطبيق النصوص المتعارضة ظاهريا[17]ً.
وعند مواجهة القاضي الوطني لحالة تعارض بين المعاهدة الدولية القانون الوطني، يتعين عليه أن يسعى في المقام الأول إلى التوفيق بين النصين كلما أمكن ذلك، في هذه الحالة يُفترض أن يُعامل القاضي قواعد القانون الوطني باعتبارها قواعد عامة تنطبق على حالات متنوعة، بينما تُعد المعاهدات الدولية موجهة نحو حالات خاصة ومحددة، ما يجعل من غير المتصور حدوث تعارض حقيقي بين المعاهدة والقانون الوطني طالما أن كل منهما يعمل ضمن مجاله الخاص.
- التعارض الحقيقي:
في حالة حدوث تعارض حقيقي بين الاتفاقية الدولية والقانون الوطني، وعجز القاضي الوطني عن التوفيق بين الأحكام المتعارضة، يجب التمييز بين القانون الوطني السابق على الاتفاقية والقانون اللاحق لها، ففي حالة التعارض التام بين القانون الوطني السابق والاتفاقية اللاحقة، تُطبق القاعدة الفقهية المعروفة التي تنص على أن “القانون اللاحق يُلغي السابق”، مما يعني أن الاتفاقية الدولية اللاحقة تلغي القانون الوطني السابق عليها.
ومع ذلك، يرى بعض الفقهاء أن نصوص الاتفاقية الدولية لا تؤدي إلى إلغاء النصوص القانونية الوطنية المتعارضة معها، بل تؤدي إلى تعطيل أو وقف تطبيق هذه النصوص الوطنية فقط، ذلك لأن الانسحاب من الاتفاقية الدولية أو إنهاءها يتوقف على إرادة الدول الأطراف فيها في أي وقت، وبالتالي، إذا انتهت الاتفاقية لأي سبب من الأسباب، يُعاد العمل بالقانون الوطني المتوقف تطبيقه.[18]
أما إذا كان التعارض بين الاتفاقية الدولية السابقة والقانون الوطني اللاحق فان استبعاد أحدهما للآخر يتوقف على درجة القوة القانونية التي يتمتع بها كل منهما[19]، ولما كان المشرع اليمني لم يُقرّ بسمو الاتفاقية الدولية على التشريعات الوطنية، لاسيما في الاتفاقية الدولية التي تصدر بشكل قانون فإنها تتمتع بنفس درجة القوة القانونية التي يتمتع بها القانون الوطني، وبالتالي فإن القانون اللاحق يستبعد أحكام الاتفاقية الدولية السابقة عليه، وهذا يعني أن القانون الوطني اللاحق قد يُلغي أو يُقوض تطبيق المعاهدة الدولية في النظام القانوني اليمني، مما يضعف فعالية الاتفاقية الدولية ويحد من قدرتها على فرض حماية حقوق الإنسان في حال تعارضت مع القوانين الوطنية.
ويتضح مما سبق أن تطبيق المعاهدات الدولية أمام القضاء اليمني لا يزال يواجه عدة معوقات، أبرزها غياب نص دستوري يُقر بسمو المعاهدات، وتضارب بعض القوانين الوطنية مع الالتزامات الدولية، فضلاً عن محدودية الوعي القضائي بأحكام الاتفاقيات الدولية وآليات تفعيلها، ورغم أن اليمن صادقت على العديد من الاتفاقيات، فإن هذا الالتزام لا يُترجم دائماً إلى ممارسات قانونية فعالة أو حماية واقعية للحقوق، وهو ما يُضعف من مكانة القانون الدولي في النظام القانوني اليمني، ويحد من فعالية القضاء في إنفاذه.
بناءً على ذلك، يصبح من الضروري اعتماد إصلاحات تشريعية وقضائية وتنفيذية تضمن التفعيل الحقيقي للمعاهدات الدولية ضمن النظام القانوني، وتُعزز من مواءمة التشريعات الوطنية مع المعايير الدولية، أبرزها ما يلي:
- على المستوى التشريعي:
- إدراج نص دستوري صريح يُكرّس مبدأ سمو المعاهدات الدولية المصادق عليها على القوانين الوطنية، بما يضمن أولوية الالتزامات الدولية في حال تعارضها مع التشريعات الداخلية
- مراجعة شاملة للتشريعات الوطنية بهدف تنقيتها من أي نصوص تتعارض مع التزامات اليمن الدولية، وخاصة تلك المتعلقة بالحقوق والحريات الأساسية.
- إصدار قانون موحّد لتكييف المعاهدات الدولية يوضح إجراءات التصديق والتنفيذ، ويضمن قابليتها للتطبيق القضائي المباشر.
ب- على المستوى القضائي:
- تدريب القضاة وأعضاء النيابة العامة على آليات تفسير وتطبيق الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان.
- ضرورة تعزيز دور القضاء الدستوري في ممارسة الرقابة على مدى اتساق التشريعات الوطنية مع الالتزامات والمعايير الدولية.
ج- على المستوى التنفيذي والإداري
- تعزيز دور وزارة الشؤون القانونية في مراقبة توافق مشاريع القوانين مع المعاهدات الدولية المصادق عليها.
- نشر المعاهدات الدولية المصادق عليها بوسائل واضحة وميسرة، مع شرح مبسط لمضامينها، لضمان وعي قانوني لدى العامة والمهنيين.
- إشراك المجتمع المدني في رصد تنفيذ الدولة لالتزاماتها الدولية، وتقديم تقارير ظل تُسهم في تعزيز المساءلة.
د- على المستوى الدولي:
- دعوة المنظمات الدولية المعنية (مثل مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان) لتقديم الدعم الفني لليمن في مجال مواءمة القوانين الوطنية مع المعاهدات الدولية.
- الاستفادة من التجارب المقارنة للدول التي سبقت اليمن في تكييف قوانينها مع المعايير الدولية، بما يساعد على تسريع وتيرة الإصلاح.
وختاماً، فإن تفعيل المعاهدات الدولية ضمن النظام القانوني اليمني ليس مجرد التزام دولي، بل ضرورة قانونية وأخلاقية لضمان حماية الحقوق والحريات الأساسية، ويتطلب ذلك إرادة إصلاحية شاملة تشمل التشريع والقضاء والتنفيذ، بما يعزز من مواءمة القوانين الوطنية مع المعايير الدولية، ويُرسّخ مبدأ سيادة القانون وكرامة الإنسان.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل
[1] المادة (11) من اتفاقية فيينا للمعاهدات
[2]
[3] المادة 2، الفقرة 1 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تنص على أن الدول الأطراف تلتزم “بأن تحترم وتضمن لجميع الأفراد الموجودين في أراضيها والخاضعين لولايتها الحقوق المعترف بها في هذا العهد دون تمييز من أي نوع، وكذلك المادة 2 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) تطالب الدول الأطراف باتخاذ التدابير القانونية والتشريعية اللازمة للقضاء على التمييز ضد المرأة.
[4] المادة 2، الفقرة 1 (ج) من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري تدعو الدول الأطراف إلى إلغاء القوانين والممارسات التي تتعارض مع مبادئ الاتفاقية. كذلك، المادة 2، الفقرة (و) من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة تطالب الدول الأطراف بتعديل أو إلغاء أي قوانين تشريعية تتعارض مع أحكام الاتفاقية.
[5] المادة 1 من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها تنص على ضرورة أن تجرم الدول الإبادة الجماعية وتحدد عقوبات لها. والمادة 4 من اتفاقية مناهضة التعذيب والمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة تدعو الدول إلى ضمان معاقبة الأفعال التي تتعارض مع الاتفاقية وتوفير سبل الانتصاف للضحايا.
[6] وتتمثل العقوبات الدولية والتدابير التصحيحية مثل قرارات الأمم المتحدة والعقوبات المفروضة على الدول التي تنتهك حقوق الإنسان، منها قراري مجلس الامن رقم 1970 و1973 بشأن فرض عقوبات دولية على ليبيا لتورطها في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان عام 2011.
فيما تمثل الضغوط الدبلوماسية عاملاً اساسياً في الوفاء بالالتزامات منها على سبيل المثال: التقارير السنوية لوزارة الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان والتي تضم معلومات حول كيفية تأثير الانتهاكات على العلاقات الدبلوماسية للدول.
كما تؤثر الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بشكل كبير على العلاقات الدولية، ويترتب على هذه الانتهاكات عواقب قانونية وسياسية قد تضر بمصالح الدول وتؤدي إلى تداعيات متعددة. أعلى النموذج
أسفل النموذج
[7] G.I.Tunkin, Droit international public, paris:1965,; Charles Chaumont, Recueil des cours de l’académie de droit international, R.C.A.D.I, Tome 129; Susanne Bastid, cours de droit international Public, les cours de droit, Paris: 1976- 1977
أشار اليه أ. حسينة شرون، ” علاقة القانون الدولي بالقانون الداخلي”، مجلة الباحث، العدد 5، العام 2007، ص 33.
[8] المادة (6) من الدستور.
[9] قرار جمهوري بالقانون رقم (27) لسنة 1992م بشأن الجريدة الرسمية
[10] المادة (2) من القــرار جمهوري رقم (255) لسنة 2003م بشــأن لائحة وزارة حقوق الإنسان
[11] المادة (2) من القرار جمهوري ( رقم ٤٦) لسنة١٩٩٣م بشأن اللائحة التنظيمية لوزارة الشئون القانونية، نشر في الجريدة الرسمية العدد (٢/٨) لسنة١٩٩٣م
[12] خيري الكباش، أوزدن حسين دزه يى، “مفهوم الاتفاق والتعارض بين القوانين الجنائية الوطنية وقواعد الشرعة الدولية: العراق نموذجا”. مجلة كلية القانون للعلوم القانونية والسياسية، مجلد 24، عدد 7، صفحات 348-401، (2018). مسترجع من: http://search.mandumah.com/Record/939132.
[13] المستشار الدكتور خيري الكباش، الحماية الجنائية لحقوق الإنسان دراسة مقارنة في ضو أحكام الشريعة الإسلامية والمبادئ الدستورية والمواثيق الدولية، منشأة المعارف بالإسكندرية، 2008، ص 784
[14] د. صالح زيد قصيله، ضمانات الحماية الجنائية لحقوق الانسان، دار النهضة العربية، 2009، ص 287.
[15] خيري الكباش، أوزدن حسين دزه يى، “مفهوم الاتفاق والتعارض بين القوانين الجنائية الوطنية وقواعد الشرعة الدولية: العراق نموذجا”. مجلة كلية القانون للعلوم القانونية والسياسية، مجلد 24، عدد 7، صفحات 348-401، ص 365-366، العام (2018). مسترجع من: http://search.mandumah.com/Record/939132.
[16] المستشار الدكتور خيري الكباش، الحماية الجنائية لحقوق الإنسان دراسة مقارنة في ضو أحكام الشريعة الإسلامية والمبادئ الدستورية والمواثيق الدولية، منشأة المعارف بالإسكندرية، 2008، ص 786-787.
[17] [17]جمال عبد الناصر مانع، “القانون الدولي العام”، المرجع السابق، ص 150-151.، أشار إليه د صالح زيد قصيلة، ص 289 -290.
[18] علي القهوجي، “المعاهدات الدولية أمام القاضي الجنائي”، مجلة الحقوق للبحوث القانونية والاقتصادية، المقالة 6، المجلد 1991، العدد 4، يناير 1991، الصفحة 1019-889، ص 972- 973.
[19] جمال عبد الناصر مانع، “القانون الدولي العام”، المرجع السابق، ص 150-151