أ.فاطمة غندور

كاتبة صحفية واستاذة جامعية.. ليبيا

مدخل لازم

في الازمة الليبية تراكمات تلقي بظلالها وأثرها ،فمنذ حراك فبراير 2011،عاودت صراعات قبلية ،لها جذور منذ القرن الماضي ( مدينتي : بني وليد / مصراته كمثال) ،أوعقود السلطة السابقة التي عملت على استبعاد مكونات ليبية (الامازيغ ،والتبو ) ، أو تغليب قبيلة على أخرى ،بحيازة ميزات وظيفية مدنية وعسكرية ، ضمن السلطة التنفيذية والتشريعية (عضوية مؤتمر الشعب العام، وأمناء اللجان الشعبية ، والخبراء والأدارات الشعبية والموجهون الثوريون!) ،أو تشكيلات ثورية تابعة، وتعبر عن منهجية السلطة ولم تجر معالجة تلك الخروقات في النسيج الاجتماعي بل جرى تعميقها على مدى العقود ، كما وشيوع مظاهر تميزية لفئة عن كامل الشعب (كان مواليد شهر سبتمبر ، ورفاق دراسة القذافي يحظون بامتيازات لتلك التصنيفات!) ،ماخلخل وضعية حقوق المواطنة، ومعنى ومفهوم الانتماء للوطن .

وفي أول الثورة الليبية 2011،فتحت السلطة الحاكمة مخازن السلاح ،ووزعتها على المتطوعين في صفها في مواجهة من انتفضوا ،ماجعلها متاحة للجميع، وقد كشف إعلام الاتحاد الاروبي مبكرا عن أرقام تداول السلاح على الأرض عند اطراف بعينها، ثقيله ومتوسطه وخفيفه، بما يقارب أثنان وعشرون قطعة سلاح ،مكدسة في المخازن ،وفيها ما ملكته كتائب أبناء القذافي، القوة البديلة للجيش الوطني ،هذا السلاح صار الصوت الملعلع في أكثر من مدينة ليبية شرق وجنوب البلاد ، ماهدد السلم الاهلي المجتمعي،واستقوت به مدينة على أخرى ، في صراع على السلطة والثروة ،حولت البلاد الى مدن منتصرة ومدن مهزومة بمفاعيل السلاح .

أدوار المرأة في الميادين رغم تهديد السلاح

برزت المرأة بشكل غير مسبوق في ميادين الثورة ، منذ ساعتها الاولى ،ففي مدينة الثورة الليبية بنغازي كانت القانونيات الحقوقيات أمام مبنى المحكمة المقارب لساحة التحرير ،ومنها خرجت البيانات المتتالية ، ونظرا لغياب دور المجتمع المدني سابقا (غير الخاضع للسلطة)،شرعت قطاعات مختلفة الاهتمامات منهن بإطلاق منظماتهن ،وخرجن بأصواتهن في الاعلام المحلي والعربي والدولي، يحقق حراك النساء الليبيات بوجهته المستقلة وبفعل الارادة، نقلة نوعية عقب عقود الديكتاتورية ،ومتغير انتفاضة عسيرة مسلحة فبراير 2011 ،يترسم نضالهن حد تقديم الدماء والأرواح لأجل تحقق مجتمع ديمقراطي وليد، فما أفدح التركة الإرث ، بذرا وحصادا ، من قدمن أرواحهن ، نضالهن وطني ، وليس لأجل حاكم هتفن باسمه ورددن أطروحاته،ولا لحزبه لجانا ثورية التي تسوغ له التسلط والقهر بالتهديد والاعتقال والاغتيالات والنفي عقدا بعد عقد،ولا لأجل توريث سلطة لأبنائه. ففي طرابلس مع مفتتح عام أحد عشر ونهاية شهر فبراير ،دفعت “ناجية ساسي” دمها وقتلت ببشاعة وهي تخيط علم البلاد ، والسيدة بونعامة لقبت بخنساء الثورة قدمت أربعة من أبنائها شهداء،وقد اعتقلوا وقتلوا غيلة ، وفي رسالتها للناس أنهم فداء وتضحية لأجل قضية أمنوا بها، وكذلك “سلوى بوقعيقيص” قتلت بعد تصريحها لقناة تدعو فيها أهل بنغازي لمقاومة الارهاب والتطرف ،وبالذهاب الى خياراتهم الديمقراطية لانتخاب من يمثلهم بمجلس النواب 2014،قتلت بوحشية واصبعها لم يجف بحبر الاقتراع ،وكذا من حضروا العزاء رجالا ونساء خرجوا من دوائرهم يوم الاقتراع ذاته . أما فريحة البركاوي مرشحة دائرة درنة، فكانت البرلمانية الاولى التي تخلت عن امتيازات برلمانية ،وعاركت بلسانها وفعلها على الارض ،ومن قلب درنة التي صعد فيها فعل التطرف من جنسيات متعددة حولت درنة الى إمارة إسلامية، لتكون مرشحتها في لحظة مشار الى المدينة بمولدة داعش والامارة الاسلامية، كانت مستقيلة ،وتواصل حراكها الوطني في محل سكنها وعائلتها،توصل مؤونة لعائلات منسية،رصاصات غادرة من مجرمي التطرف أعداء الله والحياة،خلدتها كمناضلة وطنية مدافعة عن حقوق المرأة، وصاروا هم في مزبلة التاريخ نسيا منسيا.

وفي أول انتخابات ليبية 2012،ساهمن كمنتخِبات بأصواتهن في حصد تيار مدني مقاعد الاغلبية ،على عكس ماجرى في انتخابات جارتينا مصر وتونس ،بغلبة مقاعد تيار الاسلام السياسي،وجاءت ألية الانتخابات المحلية بمقعد لازم(كوتا) للمرأة ،ولها أن تترشح كعميدة لبلدية،مثلت السنوات الاولى للثورة تأسيسا أوليا للتمكين السياسي للمرأة الليبية لم تعهد قبلا، ولكن عام 2014 شهد حرب أهلية كبرى في شرق وغرب البلاد ،وسعت من حال وظاهرة النزوح للأسر ،وقد دفعت النساء أثمانا باهضة ،حصاد الحرب ،الامهات المعيلات ، الارامل ، والمطلقات، والاخت العازبة التي ترهن حياتها لأجل عائلتها .

المرأة وظاهرة النزوح

هناك عديد من المدن الليبية شهدت هدوء واستقرار نسبي ،فيما يتعلق بالاشتباكات المسلحة ،وحقق التقارب الاهلي المدني مناخا توافقيا داخليا ،ساعد على ضمان تسيير شؤون محليات وخدمات مواطنيها، وظلت جغرافيا بعينها في محك الازمات ( طرابلس ،بنغازي ،مرزق،… )، خيضت فيها حروب متتالية ،ولسنوات ،ما أدى الى نزوح من أماكن الحرب ، الى أماكن مستقرة نسبيا ، نزوح الأسر ولسنوات، ترتب عنه بناء حياة جديدة ،وبانت عاليا جهود التكافل والتعاضد ، الاعانة والدعم التي بذلتها منظمات مجتمع مدني على مستوى البلاد ، وفيها قيادات نسائية ،ففي بنغازي وطرابلس نزحت أسر من مدينة تاورغاء مع العام 2011،إذ اتهمت المدينة بانحيازها للسلطة الحاكمة وتهديدها لسلم مدن جارة ،ولاحقا مع العام 2017 رعت بعثة الامم المتحدة في ليبيا جهود أهلية مدنية ، ضمن مساعي مصالحة وطنية لأجل عودة الاهالي النازحين الى مدينتهم تاورغاء، وحاولت الحكومة بغرب ليبيا ، حيث مقر المصرف الوطني وعائدات النفط !توفير الخدمات الاساسية، وإعادة افتتاح وتشغيل المدارس بمختلف مستوياتها والمستشفيات، وأعادت فتح سريان الاجراءات المصرفية ، وقد عانت نساء فئة هشة من تاورغاء نزوحا مؤسفا ، لجأن للمدارس، وإقامة شابتها لسنوات ضعف بنية تحتية ،ونقص خدمات،ومؤخرا شهدت المدينة عودة لهن ،لكن بعضهن تمسكن بأماكن الاقامة التي عززت حضورهن في الحياة اليومية ، منها بالإلتحاق بالوظائف كما واسقرار اجتماعي لأبنائهن

   سرد التجارب في هجرة المرأة الليبية

هجرة المرأة ليست وليدة هذه العشرية من انطلاق الثورة الليبية 2011، هاجرت النساء الليبيات رفقة أزواجهن الذين مثلوا تيار المعارضة ضد ممارسات السلطة منذ السبعينيات ،وكانت لهن أدوار سرية ومعلنة لم يحطى عنها أو يجري توثيقها، وقد مثل اشتغالهن في المجال المدني ، والاعلامي والصحفي كأقلام أوصلت رسالتها عبر الشبكة العنكبوتية أول خروجها معارضة، وقد غاب الرصد والدراسات التي توثق لهذه التجربة في فعل المهاجرة ورحلة الاغتراب بكل مافيها من عوائق الاغتراب الاجباري،وقد انشغلتُ بمحاولة تسجيل سيرة سيدات مناضلات سياسيات،فيما أتيح مؤخرا من كسر للصمت والعزلة، مثل فاطمة التايب السجينة السياسية من مدينة بنغازي، وفاطمة باقي التي بعد هجرة عقود للسويد من مدينة طرابلس القديمة ، والتي عاودت مع الثورة الليبية وترشحت كعضوة مجلس بلدي طرابلس.

لا نملك احصائيات توثق لأرقام هجرة الليبيات طوال نصف قرن ،وقائمة توصيف وتصنيف نوع الهجرة سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية ، ظلت المعلومات والاحصاءات كما مسكوت عنه ، أو حجبه عن سبق اصرار وعمد ،فما يذكر من مُهجرات حتى خلال هذه العشرية المتعسرة لايتجاوز العشرات ، إذ أول الثورة هاجرت سيدات ( نساء الخيمة والتشكيلات الثورية ) ينتمين الى النظام المنهار، الى مصر وتونس وغيرها من البلدان العربية والغربية ،خوفا من حالات انتقامية ثأرية ،لمن لحقهم الاذى من منهجية السلطة التعسفية لعقود، ثم جاءت هجرة لقياديات وناشطات مجتمع مدني مع حرب المطار عام 2014، إذ تنازعت قوتان تملكان أسلحة ثقيلة على ملكية ثروات البنك الوطني والمناصب السياسية والاقتصادية ،بعد رفضها نتائج الانتخابات البرلمانية ،رغم مشاركتها فيها والدفع بمرشحيها الذين حازوا مقاعد قلة .

توصيـات

ينبغي الاشارة الى أنه في الحالة الليبية ساهمت الجغرافيا الممتدة (ليبيا تسجل ضمن الاكبر مساحة عربيا وعالميا) في فرص الحياة والعمل بمناطق لانزاع فيها ،وحتى على صعيد الصراع والانقسام السياسي هناك من اختار الحياة عند طرف لم يتهدده، في خضم حروب المحاصصة والانتماء،ماترتب عنه تأسيس حياة جديدة ،يبقى من حق كل من ترك حقوقا مادية(أملاك خاصة وإرث عائلي) استيفاءها ،وتقع النساء في خضم هذه المسألة التي فيها ما يغيب حقوقهن الشرعية والقانونية ، ونجمل هنا توصيات في محاولة تحديد أهم القضايا التي ترتبط بمعالجة وضعية المرأة النازحة والمهجرة والتي ترتبد بالضرورة بوضعية الاسرة كاملة

 نزوح وهجرة المرأة حمال أوجه ذات خصوصية،فيها ثقل النظرة المجتمعية في حال المعيلة لأبناء أو أشقاء،ما يدعو الى التوعية بأوضاعها الاستثنائية وهي في موقع حرج بين أطراف نزاع مسلح ،فيه متطرفين حمالين نظرة إقصائية لحضورها وأدوارها ،والعمل على تقويتها معنويا لتشق طريقها في الاعمال المتاحة في الفضاء العام ،ما يتطلب أيضا إشتغالا إعلاميا واتصاليا .

 يستلزم غياب المقاربة الاحصائية ،كما المقاربة البحثية التي تحلل أوضاع “الأُسر المتضررة” واقتراح المعالجات بخارطة عمل على المدى القصير والطويل، وفيها أوضاع النساء في الهجرة والنزوج ،يستلزم إلتفات راصد وموثق من المؤسسات الحكومية،فيها وزرات :الشؤون الاجتماعية،ووزارة العمل ،ووزارة الهجرة،و الخارجية،والصحة،كما تنظيمات المجتمع المدني في المجالات ذات العلاقة ،رغم عدم نفي جهود اعانة ودعم ،ومتابعة حالات ،ساهمت بدورها الكبير في رفد الاحتياجات الرئيسة اليومية .

– النساء المعيلات لأسرهن فاقدت سكنهن بظروف عمرانية وصحية سليمة ،في مناطقهن ومدنهن التي شهدت حربا، عاودن إليها في ظل معايب البنى التحتية من مياه وكهرباء،ومقرات الخدمات التعليمية والصحية ،ومساحات أمنة لأطفالهن كما وبرامج الدعم النفسي والارشادي

– الحاجة الى تطبيق العدالة الانتقالية وجبر الضرر، فقد تم تغييب المُسآلة والتدابير القضائية ، وفيها الافلات من العقاب لمن ارتكبوا جرائم الحرب، التي تسببت في تشريد حياة أهالي مدن (محددة) في سنوات الازمة الليبية، وقد قدموا مطالبات إنصافهم (هناك قضية تم تدويلها ) ،والاعتراف بالأذى المادي والمعنوي الذي لحق بهم،وتابعتها الحكومة عبر زيارات وزاراءها،التي بدت كصور إعلامية تدعم بقاءهم السلطوي،ولم تطرح حلولا ناجعة للأسر النازحة والمهجرة .

– كان لمفاعيل التكافل المجتمعي  والعمل التطوعي ،المساهمة في رأب الصدع الغذائي والسكني،ماحفظ كرامة النازحات والمهجرات ،فلم تكف المنظمات المدنية عن الإيفاء بمتطلبات الاسر،وفي بعض مدن ليبيا ، كتجربة بنغازي جرى حصر النساء المعيلات ذوات القدرة الصحية ،وتشغيلهن ضمن مراكز تعليم الصناعات الصغرى ،واليدوية التقليدية التي لها سوقها ومستهلكوها،على ذلك ينبغي دعم المشاريع الاقتصادية التي تمكن النساء من تحقيق مدخول يحفظ استقرارهن المادي.

ملاحظة على هامش نساء النزوح والهجرة :

تنشغل منظمات مدنية ليبية بقضية الهجرة غير الشرعية ،توفر الغذاء والايواء ، بحكم أن جغرافيا ليبيا تمثل بلد عبور بحري،إذ يقطع المهاجرون من وسط وجنوب افريقيا البحر هربا الى أروبا عبرها ، ورغم الاوضاع الليبية التي فيها نزاع وصراع مسلح يجري ترك ثقل هذه المسألة للسلطات المحلية التي لاتملك زمام المبادرة والفصل فيها مع هيمنة الجماعات المسلحة على مراكز تجميع وإقامة المهاجرين والمهاجرات ،في مناطق يعبرها المهاجرون غير الشرعيين ، وتمثل النساء الافريقيات وعددهن بالألاف ،لايجري حصرهن (من جنسيات النيجر ونيجيريا وغانا واثيوبيا وكينيا…) ويتوزعن شرق وغرب وجنوب ليبيا بعضهن انخرطن بوظائف حكومية وخاصة حصلن على بطاقات تعريف كمقيمات مؤقتات،وبعضهن محتجزات لحين تدبير عودتهن لأوطانهن ما تتقاعس عنه منظمات دولية ذات علاقة ، تتعرض المهاجرات الى مشاكل مختلفة تظل على رأسها البيئة غير الأمنة في بلد النزاع والصراع واستخدام السلاح دون ضوابط .